الجنة ليست هنا

بدأ الإنسان يكون محورا لحركة التاريخ من بداية ظهور الأديان السماوية.. خاصة الأديان الثلاثة..ومن خلال هذه الأديان عرف الإنسان أن هناك حياة مادية وحياة روحية.. وعرف معنى الارتقاء المادي ومعنى الارتقاء الروحي..والمسافة بينهما. إن على مستوى الشعور والفعل أو على مستوى التأثير والتأثر..ويمثل الإسلام اتصالا بهذا المعنى الحالة المثالية النهائية التى تضع الإنسان فى البؤرة المركزية ـ كما يقولون ـ لهذا الموقف.. وبهذا فقد مثل الإسلام الرؤية الكلية لمعنى الوجود وقدم إجابات مغنية على الأسئلة الأولى التي أرهقت العقل الإنساني..خاصة فكرة الخلود والمصير.

وكانت الآيات الكريمة(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ) والآية (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ) عنوانا للعقل الراشد والقلب السليم.. والفطرة البكر التى نطقت في الأزل والأبد (بلى)..حين قال خالق السماوات والأرض(ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ..؟) .

ويمثل السلوك اليهودي على وجه الخصوص حالة متفردة..كونه صوب الوجهة تصويبا كاملا نحو(الأرض)..بدرجة أبعدت الدين كثيرا عن نصوصه الأصلية.. وأصبحت فكرة (الجنة في الأرض) فكرة محورية في المنهج والسلوك اليهودي وما تبعه من انحرافات خطيرة أثرت على الإنسانية كلها.. مثل القوميات والطوباويات السياسية والتي أضرت أكثر مما أفادت..

وتؤكد كثير من البحوث أن اليهود لم يتقبلوا فكرة الخلود في أي وقت من الأوقات ووصفوها بأنها فكرة غير ذات موضوع. لأنها لا تنسجم مع فكرتهم عن العالم الذي لا يرون فيه سوى جانبه المادي فقط...وشيئا فشيئا اضمحل الدين في جوهره وتسطح في نفوسهم ووعيهم إلى حد بعيد.. وأصبحت فكرة (الجنة هنا على الأرض) فكرة يهودية بالأساس سواء من ناحية خصائصها أو من ناحية أصلها بل ويقال أن تبنى(كارل ماركس) للفكرة الاشتراكية كان صادرا من هذا الفكر اليهودي الخالص.. كما أن كل الاشتراكيات وحركات العدل الاجتماعي وما شابهها من النماذج التاريخية التى تتطلع إلى فكرة (الجنة في الأرض) كلها يهودية ونابعة من (العهد القديم) وهو ما يفسرون به ضآلة المساهمة (الثقافية) لليهود على المستوى الإنساني والتاريخي وضخامة مساهماتهم (الحضارية)..ومعروف دور اليهود في أمريكا كما أن بعض الباحثين يذكرون أن كريستوفر كولومبس نفسه كان يهوديا!! ..والأب الشرعي للعصر النووي كله (اينشتاين) كان يهوديا ..والبعض يقول أن تاريخ اليهودية هو تاريخ التطور التجاري للعالم والأمثلة لا تحصى على المساهمة اليهودية الهائلة في المنتج الحضاري الإنساني بشكل عام.. وإذا شئنا أن نقترب أكثر نقول مساهماتهم في كل ما هو مادي وواقعي وملموس ومحسوس..وهذه الواقعية الصاخبة في الفكر اليهودي استتبعها مثالية صاخبة في الفكر المسيحي .. وهذا حديث يتصل بعلم الأديان المقارن.. وليس هو موضوعنا على أي حال..

ما دعاني لهذا الحديث هو عنوان برنامج يقدمه الأستاذ (عمرو خالد) الداعية المعروف.. في شهر رمضان بعنوان (الجنة في بيوتنا).. وحالما سمعت العنوان تذكرت الجملة المشهورة في الفكر اليهودي القديم عن (الجنة هنا على الأرض)..وأتصور أن الأستاذ عمرو خالد لديه من نبل المقصد وروعة الغاية أكثر من الكثير مما يضعف أي حديث حول أي مشابهة بين تفاصيل السعي اليهودي مما ذكرناه أولا وبين ما يدعو إليه الداعية النبيل.. صاحب الإرادة الوثابة والروح القلقة على حال أمته...

لكن هذا لا يمنعنا من أن نذكر بأن(الجنة)التى حدثنا عنها القرآن الكريم ليست على الأرض ولا في البيوت..ولا نعلم عنها شيئا إلا ما ورد من جلائل وروائع وصفها في القرآن الكريم وما ورد في السنة المطهرة من وصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. وإذا كانت كلمة (الجنة) لها معنى أخر مثل بستان أو حديقة كما هو معروف لغويا فليس هو مما مشهور في أيامنا هذه ..على أني لم أتمكن من رؤية الحلقات والتي أتوقع أن يكون مضمونها على ما اعتدناه من الأستاذ عمرو خالد..من سهوله وجمال وإشراقات إيمانية فياضة تأخذ بمجامع القلوب.

الفكرة التى تقلقني هذه الأيام هي أن هناك حالة من الإفراط في (المقاربة الدعوية) ـ إذا جازت التسمية ـ تجاه المجتمع والناس يقوم بها بعض الإسلاميين..الجميع في غنى عنها تماما.. بل إن أكثرهم غنى هم الناس أنفسهم .. الذين هم في شوق ولهفة حقيقية إلى من يساعدهم على المسارعة في طريق المغفرة والجنة التى عرضها السموات والأرض أعدها الخالق البارئ للمتقين..الذين يرجون الله واليوم الأخر..بعمق الإيمان وصراحة اليقين...بأقدام تسير بقوة على الأرض وقلوب تطلع بشوق إلى السماء... في ضبط و توازن جديرين بمن علم وفهم أن(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ ولا فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وأحب أن أشير إشارة بسيطة إلى أن الإسلام بطبيعته كدين مؤثر في الدنيا وصابغ لها وصائغ لمكوناتها..أشبه ما يكون في سلاسته بالشمس الوليدة التي توقظ الدنيا برفق وحنان وبه من التيسير والتخفيف ورفع الحرج ما يفوق قدرة وخيال أي أحد على التفنن في وسائل الدعوة بما يجاوز حقائق الأمور..

أشد بقوة على يد كل من يدعو إلى (ثقافة التيسير) وتعميمها والإلحاح في تأكيدها دون افتئات أو مزايدة كما أننا جميعا نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بأنه لا يوجد في الإسلام (الدين والثقافة والحضارة).. ما يدعونا إلى أن نلوى عنق المعاني بما يخرجها عن مقصودها.. فنبدو كمن يسائل الحجر أو يناقش الريح..كون الهجمة الإعلامية الجبارة التى أعقبت أحداث 11/9 أذهلت الكثيرين وجعلت أفكارهم تتطاير ذات اليمين وذات الشمال ليثبتوا أن الإسلام (دين حلو)..!!

يكفينا فقط أن نقدم الإسلام كما هو ونحرص ما استطعنا على ألا نكون من المتحمسين في الاتجاه الخاطئ..

المصريون
د.هشام الحمامى

مواضيع وافكار جديدة وممتعة

جزاكم الله خيرا
وأوافقكم الرأي ان الأستاذ عمر خالد كان غرضه من الجنة في بيوتنا ان أفعالنا التي تؤدي بنا إلى جنة الفردوس جعلنا وإياكم من سكانها

موضوع جميل ومحدد اشكرك عليه