منتديات السعادة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

إدارة المقهورين ـ د. سعيد إسماعيل علي

اذهب الى الأسفل

إدارة المقهورين ـ د. سعيد إسماعيل علي Empty إدارة المقهورين ـ د. سعيد إسماعيل علي

مُساهمة من طرف saied2007 الخميس مارس 20, 2008 2:12 am

ليس القهر فقط بالسياط والرصاص والسجون والتعذيب، وإنما قد يكون بمجموعة من القوانين والقواعد والإجراءات والنظم تشعر أمامها بالقهر حيث تصاب إرادتك بنوع من الشلل تقف أمامه دون أن تقدر على دفع ما يقع عليك من قهر، فأنت لا تكون بمواجهة قوة بوليسية تقاومها، ولا مطاردة تحاول أن تهرب منها، وإنما وضع إذا حاولت التمرد عليه اعتبرت مذنبا بالضرورة، وحاق بك قهر أوسع وظلم أكبر.
كثيرا ما أكون سائقا سيارتي على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية وتكون السيارة في حدود السرعة المسموح بها وهي المائة فأرى سيارات أخرى تسير بسرعة الصاروخ، مما يزيد على المائة بالتأكيد وغالبا عندما أنظر إلى مثل هذه السيارات أراها من النوع الفخم، على عكس سيارتي التي عادة ما يكون نوعها من النوع البسيط الذي يقف ثمنه عند الحدود الدنيا لأسعار السيارات، فأتساءل بيني وبين نفسي: هل توقع جزاءات على مثل هذه السيارات الفخمة المتجاوزة لحدود السرعة المسموح بها بكثير ؟
سيقول أولوا الشأن: نعم وأقول: لن أصدق لا إذا اطلعت على قائمة المخالفات وأجد من ضمنها ركاب هذه السيارات، من الوزراء واللواءات والعمداء من الشرطة وكبار رجال الأعمال وأبناء كل هؤلاء وأنهم دفعوا كل الغرامات المقررة!!
مثل هذا الحال سوف تجده دائما في الدول التي يعيش شعبها في حالة قهر لكن لن تجده أبدا في الدول التي يتمتع فيها مواطنوها بما لهم من حقوق مثلهم في ذلك مثل الوزراء وكبار رجال الأعمال وكبار ضباط الشرطة وعائلاتهم ولو دققت التأمل فسوف تجد أن الدول المقهورة شعوبها هي دائما متخلفة ضعيفة تابعة ذليلة وأن الدول الأخرى دائما متقدمة وقوية وذات سيادة حقيقية.
حتى شعوب المنظومة الاشتراكية سابقا والتي أوهمتنا بإحراز صور تقدم كبير عددا من السنين أنكشف أمرها بعد سنوات فسقطت غير مأسوف عليها لأن مواطنيها كانوا قد سقطوا من قبل تحت براثن القهر والاستبداد.
إنها سنة الله في خلقه، لا يرتفع قدر دولة وإنسانها ذليل، تحت الأقدام ...
وأرجو أن يتسع صدر القارئ الكريم لما أرويه اليوم فهو يدور حول قصة قصيرة للغاية، زمانها: الصيف الماضي، يواجهها آلاف من المواطنين يوميا وقد استسلموا لها، باعتبار هذا نظاما قانونيا لابد من الامتثال له وقدرا لا قبل لهم بدفعه.....
ليس المهم اسم المكان وليس من المهم اسم هذا الشخص أو ذاك .. وإنما المهم هو ما تحمله جملة الوقائع من دلالات وما تشير إليه من معان تؤكد على أن القهر يمكن أن يتخفى في مجموعة ظروف ونظم وإجراءات وقوانين ومعاملات..
صاحبنا أستاذ جامعي كبير، ترك سيارته التي مضت عليها سنوات طوال إلى ابنه المهندس يستعين بها في حياته العملية والأسرية، وأراد الابن المهندس أن يريح والده الذي بلغ من العمر عتيا وأصبح يتوكأ على عصاه حماية له من عثرات الطريق، من أن يجئ بنفسه للقيام بإجراءات تجديد رخصة السيارة فكان أن ذهبا سويا إلى إحدى إدارات المرور بالقاهرة لعمل "توكيل" إدارة وتشغيل سيارة، ثم إذا بموظف الشهر العقاري يكتشف أن الرخصة قد مر على انتهائها يومان، نسيانا وسهوا، فطلب ما يسمي "شهادة بيانات"...
نزل الابن إلى القسم المختص، وكانت الساعة هي الثالثة، والمفروض أن هناك فترة مسائية للعمل، ففوجئ بمن يقول له: اليوم حرام فيه العمل للفترة المسائية، فلما سأل عن السبب، قيل: عشان مؤتمر حزب الحكومة الذي ينعقد من أجل إسعاد المصريين!
طبعا كان الأب والابن قد تركا أعمالهما التي يتعيشان منها، فإذا بساعات تضيع، وجهد يبذل هدرا بغير جدوى !
جاءا في اليوم التالي، في العاشرة صباحا...
وقف الأب على مدخل الصالة المخصصة لأعمال الرخص والشهادات مذهولا من هول ما رآه من ازدحام مخيف، عدة شبابيك، لا طوابير أمام كل منها، وإنما مجموعة من البشر يكاد "يركب" كل واحد منهم الآخرين.. لا إعلان على أي شباك يعلن اختصاصه، فيقف الداخل حائرا : إلى من يتوجه، فيضطر إلى محاولة اختراق الجمع الحاشد عند أول شباك ليسأل: أنا عايز أعمل شهادة بيانات، أروح لمين ؟ وأمواج من البشر تسيل إلى الداخل، وأمواج منهم تسيل إلى الخارج، وكل منهم لابد أن يتدافع فيصطدم كل دقيقة بغيره، لا فرق في ذلك بين عجوز بعكاز مثل الأب المسكين، ولا بين سيدة أو آنسة أو سيدة عجوز!
ثم غلالات من دخان السجائر في هذا الزحام الكبير، مع مئات الأنفاس، ورائح العرق المعطر بالغبار والرطوبة والأجساد المتهالكة المتدافعة...
تذكر الأب عندما جاء لأول مرة إلى نفس المكان منذ عام 1971، حيث امتلك سيارة شعبية لأول مرة، ولم يلحظ أي درجة ما للتطوير والتقدم، بعد مرور خمس وثلاثين سنة... انهار فيها الاتحاد السوفيتي، والدول المتحالفة معه و ظهر النظام العالمي الجديد وثورة المعلومات، وثورة الالكترونات، وما بشر به حزب الحكومة من "فكر جديد"...
آسف، لقد تنبه الأب أخيرا إلى بعض مظاهر التطوير، إذ لاحظ أن الأرض أصبحت من الرخام أو السيراميك، وأن الأنوار أصبحت "نيون"، وأن هناك تلفزيونا كبيرا معلق على الجدار، طبعا لا يعمل، لأن أحدا لا يجلس ليتفرج، فالجميع يلهثون جريا، وصعودا وهبوطا وراء ورقة، أو ختم ورقة، أو شراء لورقة...
كان الابن يقف في الطابور حيث لا يتحمل والده ذلك، حتى إذا جاء دوره، نادي والده ليحل محله أمام الشباك.. طبعا، عدة مرات، كان يحدث فيها دائما ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر...
في وسط هذا الزحام المخيف، حيث لا نظام وإنما تكدس وتدافع، والكثير من أدخنة السجائر، ورائحة العرق، تجد الباب يفتح تلقائيًا للكثير من السلوكيات المؤسفة، فكل فرد يقف على أعلى درجات التوتر والنرفزة، فلا تسامح يطرح على الساحة ( فقط يطرح عندما تضربنا إسرائيل أو تفتك بنا أمريكا)، فتكون التربة مهيأة لسوء العلاقات، ويكون الجو مهيأ بشدة لاستخدام الوساطات حتى ينقذ الفرد من العذاب، وتكون الجيوب مفتوحة لتصدير الرشوة وأخذها، تحت شعار "يا روح ما بعدك روح"، واحتمالات ضياع نقود وأوراق!!
مر ما يقرب من الساعة والنصف، لا أريد أن أغرق القارئ فيما مر به الأب العجوز، الأستاذ الكبير، الذي علم آلافا لا في مصر وحدها وإنما في بلدان عربية كثيرة، من عذابات ، كان أثناءها يقف "غلبانا" أمام هذا الموظف وذاك، مطيعا، لا حول له ولا قوة، حتى عندما صاحت موظفة في وجهه ـ حيث أتاها عدة مرات ـ يا أخي إنت زهقتني ـ بنبرة زاعقة وحادة، لم يكن ينقصها إلا أن تمد يدها لتصفع الأستاذ الجامعي الكبير!
دفع الأب الأستاذ ـ مثل غيره ـ واحد وثمانين جنيها سعرا لشهادة البيانات، ونظر فيها فوجد أنها مجرد ورقة كتبت عليها نفس البيانات التي على رخصة السيارة، وتساءل بينه وبين نفسه : لماذا هذا العذاب كله من أجل بيانات هي مدونة بالفعل على رخصة السيارة؟ وما حجم وقيمة السلعة التي تستحق أن يدفع عليها كل هذا؟ بالنسبة إليه ليس المبلغ صعبًا، ولكن يظل التساؤل مشروعا : مجرد خمس أو ست معلومات، كل منها جملة تقل عن نصف سطر.. ما الجهد المبذول الذي يستحق دفع هذا المبلغ؟ لكنك لا تستطيع إلا أن تدفع صاغرا!
وبعد ساعة ونصف أخرى، عندما وقف في المرحلة الأخيرة أمام موظفة التوثيق يسألها: أليست هذه البيانات التي طلبتموها ودوختنا يومين وعشرات الجنيهات والعذاب وتضييع ساعات طويلة وتوتر أعصاب هي نفسها البيانات المدونة على الرخصة؟ فتجيب : لأن الرخصة انتهت منذ يومين ، فيجيبها : لكن بيانات السيارة هي هي لم تنته مدة صلاحيتها؟ فسكتت الموظفة، ربما لأنها لا تملك إجابة ، غير : النظام كده!
مرة أخرى ، أعرف أن القصة عادية ، وأنها تتكرر يوميا لآلاف من الموظفين، لكن ما أردنا إبرازه، هو ما تحمله من دلالات تنبئ بأن النظام، في بعض قواعده، يحمل في طياته قهرا للمواطنين ، وتكراره، ومرور الآلاف به يوميا جعله أمرا عاديا، فلقد ألف المواطنون أن يعيشوا قهرا، دون أن يشعروا بأنهم كذلك، وهذا أقصى درجات القهر.
وإذا كانوا يقولون ، معظم النار من مستصغر الشرر، فإننا هنا نردد كذلك : إن الاستسلام لأقصر وأبسط مواقف القهر، هي التي "تعود" المواطن على القهر الأكبر!
saied2007
saied2007
المدير العام
المدير العام

عدد الرسائل : 4579
تاريخ التسجيل : 11/10/2007

https://saied2007.ahlamontada.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى