الانسحابات الثلاثة..خيري منصور

لم يغرد الجنرال ادوارد اتكسون خارج السرب عندما قال إن قرار احتلال العراق هو أغبى قرار استراتيجي في العالم، فقد سبقه، وسوف يلحقه العديد من الباحثين والجنرالات المتقاعدين أيضاً، والجنرال اتكسون هو كبير الباحثين في مركز الدراسات الدولية في واشنطن، ويرى من موقعه أن الجمهوريين قد خسروا الانتخابات بدءاً من الكونجرس، وأن ما تورطوا به، وورطوا بلادهم بويلاته سيكون في المستقبل وصمة عار في جبين الجمهوريين.

أمريكا خسرت الحرب، لكنها تضاعف من خسائرها، وهي تصر على مواصلة التعامي عن الحقائق وكأنها لا تسمع إلا صدى صوتها المبحوح، أما الحل الذي يقترحه هذا الجنرال فهو الانسحاب ثم الانسحاب ثم الانسحاب، لكنه لم يحدد مستويات هذا الانسحاب، وكان من الممكن له أن يعطي لتكرار الكلمة معنى اضافياً، بحيث لا يكون الانسحاب الأمريكي من العراق فقط، بل من البيت الأبيض ايضاً والبنتاجون، فالزمرة اليمينية المتطرفة خاضت حروبها الخاصة تلبية لمصالحها على حساب الأمريكيين أولاً، وإذا كان بوش سينهي آخر فصل من هذه الدراما بحرب ثالثة على إيران فإن أمريكا ستدفع ثمنا مضاعفاً لأخطاء من قادوها في غفلة من الزمان.

والخراب الذي لحق بالعراق، كما يقول جنرال أمريكي، هو الاحتلال، وهذا ما لا يرضى به جنرالات عرب ربطوا عرباتهم بخيول واشنطن وبغالها أيضاً.

إن مطالبة الأمريكيين برحيل بوش ونائبه تشيني يتبناها مثقفون أمريكيون وجنرالات عاد إليهم الرشد المفقود، بعد أن استخفهم الطرب ورقصوا على اشلاء جنودهم.

وذات يوم سيكون رف الكتب المخصص لنقد التجربة البوشية حمولة باهظة على الذاكرة والوجدان الأمريكيين، فلم يحدث من قبل أن كتب عن رئيس أمريكي بهذا الأسلوب التجريمي، فهو صورة كاريكاتيرية لامبراطور من طراز كاليغولا.

إن تكرار كلمة الانسحاب ثلاث مرات في حديث الجنرال ادوارد اتكسون ليس على طريقة أمك ثم أمك.. ثم أباك، ليس فقط لأنه ينتمي إلى ثقافة الفطام المبكر، بل لأن الانسحابات الثلاثة يجب أن تشمل الإدارة الأمريكية ووزارة الدفاع قبل العراق.

وقد يكون ترتيب الجنرال ادوارد الثالث بعد الألف ممن قالوا إن هذه الحرب هي حماقة سياسية، ومغامرة عسكرية، ولم تحصد من الغنائم ما يكفي لإغداق العطايا على مرتزقة الماء الأسود.

والمثير للدهشة هو أن بوش، ومن تبقى في قاربه الموشك على الغرق لا يسمعون ولا يقرأون ما يكتب عنهم، حتى في الداخل الأمريكي، لأنهم قرروا منذ اليوم الأول أن يخوضوا حروباً قد تكون خاسرة بمقياس الأمن القومي والاقتصادي في بلادهم، لكنها رابحة حسب اجنداتهم والحواسيب الخاصة التي احتكمت إليها قراراتهم.

إن ما يقوله علماء الأحياء الأمريكيين عن الذباب الذي تغذى وسمن من المبيدات يصلح للتأويل السياسي أيضاً، فالنقد قد يتحول إلى علف دسم بالنسبة لمن يستخفون بكل ما يصدر عن سواهم، وكأن الآخرين يحسدونهم على هذا المجد.

إن ما بين السطور في معظم ما نشر من ادانات وتجريم ونقد لبوش وطاقمه، قد يتحول إلى امثولات ومقولات مضادة لما ينسب إلى امرسون وثورو وويتمان، فالفضيلة تحتاج حتماً إلى رذيلة توضح معناها وترسم حدودها وتضاريسها باللون الأسود.