الأصْل طبق الصورة..خيري منصور..الخليج الإماراتية

في هذا الزمن المقلوب، الذي علت فيه العيون عن الحواجب لأن الناس يمشون على رؤوسهم، والذي تفوق فيه التقليد على الأصل لفرط ما أوغل في المحاكاة، أصبح من السهل استبدال الاشجار بنشارة الخشب، والشمس بمصباح كهربائي والقمر بشمعة.. ولم تعد الموعظة المتكررة احذروا التقليد ذات مفعول، لأن الأصول اختفت، ومنها ما فرّ بجلده لأن العملة الرديئة هي التي أصبحت الطاردة، وليس العكس، لهذا علينا ألا نندهش إذا أعاد محترفو التقليد والتقريد انتاج المقولات كلها.


فمن هدّ وجد ومن علمني حرفاً كنت له قاتلاً، والكلب الحي خير من الأسد الميت.


إننا نعيش زمناً انتصر فيه الهامش على المتن، واعتذر فيه حصان البراري لحصان الخشب أو حصان السيرك الدّاجن، وهناك لوحة سوريالية رسمها عربي يعيش في لندن، أو يموت فيها كما قال. هي كلب يرتدي البدلة ورابطة العنق ويدخن الغليون، ويجر انساناً عارياً وجاثياً على ركبته فوق الرصيف، ولا يثير المشهد فضول أحد من المارة، لأنهم يحدقون فقط إلى أقدامهم تماماً كما تقضي الماشية أيام بطالتها بتأمل أظلافها.


والمقصود في النهاية هو أن تنقلب المعادلات كلها، فيقدم الغزال طلب انتساب إلى نادي الزواحف كي يشاركها السّبات، ويقدم الحمام طلب انتساب إلى حزب الغربان كي ينجو من هديله الذي بدلاً من أن يطرب أعداءه، يسيل لعابهم على دمه.


الأصل طبق الصورة إذن، وعلى الماء ان يعتذر للسّراب، تماماً كما أن على العالم أن يعتذر للجاهل لأنه اقترف من الوعي ما يفسد الهدوء والتّطامُن.


وكالعادة، فإن الصورة تضاعف من لونها أو صوتها أو رائحتها المغشوشة كي تحل مكان الأصل وتطرده، والانحراف كما يقول علماء النفس والاجتماع مشروط لكي يبقى انحرافاً بأن يكون نسبة ضئيلة كأن لا يتجاوز الخمسة في المائة، لكنه حين يتمدد سرطانياً ويصبح أكثر من ثمانين في المائة يتحول إلى طبيعة ثانية ومضادة، لأن المكتسَب يتحول بمرور الزمن إلى فطري! ولو صدقنا علماء الأحياء والتطور فإن عنق الزرافة استطال لكي تأكل والفقمة تعاني ما تعاني لأنها متورطة في منتصف الطريق بين البري والمائي، أما الفأر فقد استدق رأسه ولانت عظام جمجمته كي يستطيع الدخول من أي جحر مهما كان ضيقاً بسبب تراث الهلع.


إنه زمن المهزوم الذي يشهر رايته البيضاء مزهواً وفخوراً بهزيمته، لأن النجاة بالجلد أغلى من الكرامة، ولأن الكلب الحي أغلى من الأسد الميت. وإذا كانت الشركات الكبرى تسحق كل عام ملايين السلع المزيفة التي تحمل أسماءها فإن هذا ليس ميسوراً للأفكار، ورغم وفرة القوانين التي تزعم بأنها تحمي ملكية الفكر إلا أن لصوص الانترنت، وقاطعي الورق لا الطرق يصعب بل يتعذر ضبطهم متلبسين بما سرقوا فثمة من يكدحون طوال الوقت من أجل استيلاد فكرة بعد مخاض عسير، ثم يفاجأون بأنها في سلال الآخرين الذين لم يزرعوا ولم يحصدوا.


إن ما كان يسمى الانقلاب الكوبرنيكي نسبة إلى كشوفات كوبرنيكس في الفلك، يصبح الآن على مجال أرضي، وعلى تفاصيل يومية.


لكن كوبرنيكس الجديد، ليس عالماً وليس فلكياً إنه برشاقة قرد يثب من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى شجرة ومن غابة إلى أخرى بحيث يصعب الإمساك به.


زمن زئبقي بامتياز، لهذا حذفت الفواصل بين الأضداد، وأصبح كل شيء مباحاً ومتاحاً في غياب الخجل والروادع وما كان يسمى ذات تاريخ غابر: الكرامة.