فيديل والوداع الناقص..خيري منصور..

تنحى قبل أن يتنحى، وغادر خشبة المسرح من الباب الخلفي، بعد خمسة عقود هي عمر كوبا الحلم والعصيان وأخيراً العقاب، وهو أيضاً عمر معظم حركات التحرر في القارات الثلاث بعد الحرب الكونية الثانية، حيث رفع شعار ما بعد الاستعمار، وأوشك العالم في ستينات القرن الماضي أن يدخل إلى حقبة خضراء لولا الإجهاض والنكوص وأخيراً الحصار الذي دفع ثورات إلى المصالحة، وأخرى إلى الشيخوخة والتقاعد.

كاسترو حمال أوجه، وتجربته عريضة ومركبة تقبل أن يقال عنها كل شيء بدءاً من المديح ذي النبرة النشيدية حتى الإدانة بمختلف ميادينها.

فقد تجرع الكوبيون مرارة السكر، وكما حدث لاهوار العراق حدث لمستنقعات كوبا، تحول القصب الحزين إلى نايات، عزفت من الأنين ما جعل الحالمين يغضون الطرف عن الأخطاء.

يقول فيديل في إحدى مقابلاته إنه تعرض لأكثر من مائتي محاولة اغتيال، ويضيف أحد أصدقائه الذي كتب بورتريه مفعماً بالحماس عن فيديل، إن هذه الاغتيالات كانت تستهدف كوبا وتجربتها الاستثنائية في أمريكا اللاتينية، وهي تجربة نادرة قدر تعلقها بحشد المتناقضات، لأن فيديل نفسه تربى في حاضنات الجيزويت وحين اعتنق الماركسية عاملها كما لو أنها عقيدة دينية، لهذا تشبث بها رغم غروب الشمس التي كانت تضيئها في موسكو، والرجل الذي أوشك أن يتسبب في حرب كونية ثالثة إبان أزمة خليج الخنازير في مطلع ستينات القرن الماضي انتهى إلى عزلة لا يحسد عليها لكنه تستر على عزلته وحصار بلاده بخطاب راديكالي جذب إليه أجيالاً ثلاثة من شبان كوبا رغم أن نسبة لا بأس بها منهم كانت تحلم بالجهة الأخرى، ومن هؤلاء ابنة فيديل نفسه.

لقد تنحى كاسترو لأسباب صحية، فهو يصارع الشيخوخة والمرض منذ أعوام، رغم أنه في لقاء دراماتيكي مع تلميذه شافيز كان يكابر ويحاول النهوض على ساقين لم تعودا تقويان على حمل قامته المسرحية.

إن السؤال الأهم الآن بالنسبة لكوبا، هذه الجزيرة التي قاومت عواصف المحيط هو ما الذي سيرثه القادمون ممن يتولون إدارة دفة السفينة، فالأوضاع الاقتصادية في كوبا ليست على ما يرام، والعزلة أورثت الجزيرة مناخات مضادة للعولمة، لكن العولمة العابرة للحدود والايديولوجيات تسربت بشكل أو بآخر إلى كل القلاع حتى تلك المحروسة بنظم صارمة وشبه شمولية.

لم يعد فيديل منذ أعوام ينعم بالإضاءة الساطعة ذاتها على المسرح، بعد أن كان يقف ساعات تحت الشمس وهو يرنو ببصره إلى شاطئ فلوريدا متحدياً عدوه الأول في واشنطن.

وأحياناً يكون هناك تزامن دراماتيكي بين شيخوختين، شيخوخة التجربة وشيخوخة من يرمز إليها، وهذا ما حدث إلى حد بعيد في جزيرة الشيطان كما كان يسميها أعداؤه في الولايات المتحدة ومن لاذوا بواشنطن من الكوبيين الفارين.

أما السؤال التقليدي عما سوف يتبقى من فيديل بعد التنحي ومغادرة المسرح فهو معلق لبضعة أعوام أخرى، لأن فيديل له ظل طويل ولصوته الجهوري صدى قد يدوم أكثر مما يتوقع من رفعوا الكؤوس احتفالاً برحيله الرمزي.

اشكرك على الموضوعات المتميزة