الحكومة تعتقد أن الشعب المصري هو المنافس الذي تتحرك ضده

لا نهضة حقيقية ما لم نهتم ببناء الإنسان المصري جنبا إلي جنب مع بناء البنية التحتية للدولة، ألم يقل المصري الحكيم: "إحنا اللي بنعمل الفلوس مش الفلوس اللي بتعملنا". إن اهتمام حكومات الحزب الوطني المتعاقبة بالبنية التحتية يجعلني أعتقد أننا بحاجة لرئيس وزراء آخر، ليس بدلا من، ولكن، يضاف لرئيس الوزراء الحالي. فليستمر الدكتور نظيف في رئاسة وزراء البنية التحتية ولنعين رئيس وزراء آخر للتنمية الإنسانية. ومصدر كلامي هذا هو ما يبدو من قناعات السيد رئيس الوزراء والوزراء والتي هي امتداد لخطابات الرئيس مبارك عن زيادة عدد التليفونات وتحسن أحوال الصرف الصحي، واضطراد أعداد الكباري والأنفاق، و عن الانجازات في مجال البنية التحتية وتدفق الاستثمارات الأجنبية علي مصر فضلا عن أن الـ 70 مليون مصري مطلوب من الرئيس أن "يأكلهم كل يوم". إنها معضلة من الواضح أنها مسيطرة علي الحزب الوطني ورجاله ولها مظاهر عدة منها أحد أحاديث السيد رئيس الوزراء علي شاشة التليفزيون المصري والذي انتقد فيه بعض سلوكيات الإنسان المصري مثل إسرافه في استخدام المياه في غسيل العربيات والرش أمام البيوت أو في الإنجاب بمعدلات عالية. وواضح أنه إذا كان هذا هو الفهم السائد عند السيد رئيس الوزراء، فإن التنمية الحقيقية في مصر تجعلنا بحاجة لرئيس وزراء آخر يبني الإنسان المصري بالإضافة لرئيس الوزراء الحالي الذي ينشغل أكثر بالبنية التحتية. فالقضية ليست في إدارة شئون مصر، المعضلة هي تنمية وتثقيف وتوعية الإنسان المصري. وأؤكد أننا لو قارنا أنفسنا بالعديد من دول العالم الأخري فسنجد أنفسنا نسير خلفهم ونتقدم بمعدلات أقل من معدلاتهم، لأننا نبني رغما عن أنف الإنسان المصري وليس بالتأكيد علي دوره والتأكد من تعاطفه مع أولويات الوطن كما صاغتها الحكومة التي "اختارها" لتقود الوطن. إن حديث السيد رئيس الوزراء يعكس رؤية أستاذ هندسة لم يتمرس علي العمل السياسي بالقدر الذي يجعله قادرا علي استيعاب أهمية أن يخلق مناخا يجعل الحكومة تعمل فيه بالتعاون مع المجتمع وليس بقهر بعضه وتجاهل بعضه. وقد أطلقت الأمم المتحدة علي عملية بناء هذا المناخ (Building Trust in Government) ) أي بناء الثقة في الحكومة. وأرجو أن يعقد مجلس الوزراء اجتماعا لمناقشة إعلان فيينا 2007 عن بناء الثقة في الحكومة بما فيه من إجراءات عشرة، بل أطلب من أحزابنا أن تجتمع علي مناقشتها حتي تعيد المواطن المصري لوطنه، فيهتم بالأحزاب مثلما يهتم بفرق كرة القدم، ويعرف قادة الرأي والمجتمع المدني كما يعرف المغنين ولاعبي الكرة. وحتي يحدث هذا فأنا أطالب بأن يكون هناك رئيسان للوزراء واحد يهتم ببناء الإنسان المصري والآخر يهتم ببناء الكباري وحفر الأنفاق ومد التليفونات بدلا من حالة التقدم المظهري الذي يخفي وراءه الكثير من مظاهر التخلف الهيكلي التي نعيشها كما يقول سمير أمين. أحدهما يهتم بتعليم المصريين ألا يسرفوا في استخدام المياه والآخر يهتم بمد مواسير المياه والمجاري تحت الأرض. واحد يعلم المصريين ألا يلقوا الزبالة في الشارع، والآخر يتعاقد مع شركات إسبانية وفرنسية كي ترفع الزبالة من الأماكن المخصصة لها. وبالمناسبة لن ينجح الثاني إلا إذا نجح الأول، ولن ينجح الأول إلا إذا نجح الثاني. فلا انفصال بين زيادة أعداد السيارات في الشوارع وارتفاع كفاءة قائديها. فالقضية الملحة ليست في المظاهر الشكلية للتقدم مثل وجود تليفونات أكثر، ولكن فيم يتحدث المصريون وما هي القضايا التي تشغلهم؟ كما أنه من المنطقي أن يكون عدد الكباري في اضطراد لكن ما معني أن يكون ضحايا المصريين من حوادث الطرق في السنة أكثر من ضحايا الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي المتكرر؟ ولا شك أن المرء يكون سعيدا حين يفتح الحنفية ويجد ماء متي تيسر له ذلك، لكن المعضلة أن المصريين يمكن أن يفتحوا الحنفية ولا يكترثون بإغلاقها. نحن نبني عددا أكبر من المدارس لنواجه الزيادة السكانية. لكن سؤالي، لماذا لا نبني الإنسان المصري الذي يكافح هو بذاته الزيادة السكانية ويساهم هو بذاته في بناء المدارس؟ الحكومة تعتقد أن الشعب المصري هو المنافس الذي تتحرك ضده لأنها لم تنجح في أن تكسبه في صفها، وأن تجعل قضاياها قضيته. من غير المهم أن يعمل الوزير أضعاف ما يعمل من وجهة نظري، لكن المهارة الحقيقية كيف ينجح الوزير في أن يجعل العاملين في وزارته يعملون أضعاف ما يعملون ويعطي هو لهم القدوة. هذه طريقة مختلفة في التفكير عن تلك السائدة عند رجال الحزب الوطني. فهو كحال الأب الذي يقوم بإعادة ترتيب المنزل مع كل مرة يقدم فيها الأطفال علي العبث بمكوناته لأن لديهم سلوكيات خاطئة، وغالبا ما يلعنهم في سره لأنهم غير ملتزمين بما يراه صوابا. ماذا لو نجح الأب في تربية أولاده علي أن يكونوا مسئولين عن أفعالهم علي نحو يجعلهم لا يعبثون بلا إحساس بالمسئولية أو يصلحون ما يفسدون؟ ومن هنا تأتي أهمية التربية علي المواطنة، أي التربية علي قيم المسئولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم. إن ثقافة الإنسان المصري ليست معطي مثل الموقع الجغرافي لا نملك حيالها إلا التسليم بها والتعايش معها وإنما هي واحدة من أدوات التقدم إن استطعنا أن نعيد تشكيلها وتوجيهها، أو واحدة من أسباب التخلف إن جعلنا منها عذرا للاهتمام ببناء المدارس دون الاهتمام ببناء الطالب، بتعبيد الطرق دون الاهتمام بتربية قائد السيارة علي قيادتها، بمد مواسير المياه دون تربية المواطن علي حسن استغلاله لها. إن المصري مستقيل من الحياة العامة ينظر لمصر كبقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر. من يستطيع أن يعيده للوطن ويعيد الوطن إليه
د.معتز عبد الفتاح

اشكرك على المفال الرائع

اشكرك جزيل الشكر على الموضوع المفيد