المواطنة وحقوق الإنسان..د.محمد إبراهيم عيد

من طرف saied2007 الثلاثاء يناير 15, 2008 1:15 am

تقاس حضارة الأمم بمقدار ترسيخها لمفاهيم حقوق الانسان والمواطنة والتسامح الثقافي‏.‏ ولاتتحقق المواطنة إلا من خلال انصهار الكل في واحد‏,‏ حيث المساواة في الحقوق والواجبات‏,‏ والمشاركة السياسية‏,‏ والوجود الفعال‏,‏ والتأصيل الديمقراطي وفي جميع مناشط الحياة‏,‏ فالكل في حق الحياة سواء‏,‏ وتاريخ مصر خير شاهد علي قدرتها علي التجدد والاستمرارية والفاعلية‏,‏ فهي من اعرق حضارات الدنيا‏,‏ تتسم بحيوية دافقة‏,‏ ووحدة عضوية لا شتات فيها‏,‏ قديمة وغائرة في عمق الزمان‏,‏ شكلتها ثوابت جغرافية ثرية التنوع ومتغيرات تاريخية‏,‏ الرجوع إليها يتيح فهما اعمق للمستقبل‏,‏ وتراثا مركبا تسيطر عليه قوة الاعتقاد‏,‏ ودينامية في التفاعل بغير جمود أو انغلاق‏,‏ وتجانس في البشر متواصل بتواصل حلقات الزمان‏,‏ ووسطية في السلوك‏,‏ تترجم معاني التسامح رغم التباين في الاعراق والانساب‏,‏ فأنساق القيم والعادات والتقاليد ظلت راسخة برغم تعدد الغزاوات وبرغم التحول من دين إلي آخر‏,‏

وبرغم تغيير اللغة من هيروغليفية إلي قبطية إلي عربية‏,‏ وتمثل الهوية الثقافية المصرية قطبا له جاذبيته‏,‏ سواء في العصور القديمة ام في عصرنا الحالي‏.‏وهذه الجاذبية القطبية هي التي منحت مصر قيمة الدور التاريخي عبر عصورها القديمة والحاضرة ايضا‏,‏ فكانت ـ ومازالت ـ محركة للأحداث لدرجة بلغ الولع بهذه الثقافة حد الهوس كما يقول برنال الذي يوضح في كتابه اثينا السوداء ان الحضارة المصرية اصل الحضارة الاغريقية‏,‏ وان‏20‏ أو‏25%‏ من اللغة الاغريقية مستمدة من اللغة الهيروغليفية القديمة‏,‏ وان هيرودوت هو من أول من اعلن صراحة ان اصل اسماء جميع الآلهة الاغريقية مصري‏,‏ وان الاساطير المصرية هي أصل الاساطير الاغريقية‏,‏ وان الاسكندر الأكبر نفسه‏,‏ وهو الفاتح العظيم جاء ليحج إلي معبد سيوة طالبا العون من كهنة آمون الذين لبوا دعوته ولقبوه ابن الاله‏.‏

ولم تكن مصر قبلة للعلماء والمفكرين والفلاسفة من امثال افلاطون وهيرقليطس وفيثاغورث وهيرودوت فحسب بل كانت ايضا قبلة للانبياء ومسرحا لعبور رسالات السماء‏,‏ فقد اتي إليها ابراهيم أبوالانبياء‏,‏ وخرج منها ومعه هاجر المصرية‏,‏ زوجة له‏,‏ والتي ولدت له اسماعيل‏,‏ والذي من نسله محمد رسول الله‏,‏ ومن بعد ابراهيم جاء يعقوب حفيد اسحاق‏,‏ ثم يوسف بن يعقوب‏,‏ ثم رجع إليها يعقوب وابناؤه الاسباط‏,‏ وفيها ولد موسي عليه السلام واحتمي فيها يسوع المسيح‏,‏ فكان أول لاجئ فلسطيني يحتمي بأرض الكنانة‏,‏ ومنها تزوج محمد رسول الله من السيدة مارية القبطية‏.‏ وكانت مصر استثناء فريدا بين الامم‏,‏ حيث ذكرت في القرآن خمس مرات وفي أربعة مواضع وهذا الاستثناء هو ابلغ ما ظفر به موقع في الأرض أو موطن للناس أو بلد في الدنيا‏.‏ ولايمكن ان يكون لمصر هذا الدور التاريخي‏,‏ والوجود الماهوي المتميز‏,‏ بغير تسامح ثقافي هو المميز لوجودها ولطبيعة هويتها الثقافية ونسأل ماهو التسامح؟

ان جوهر التسامح يكمن في حرية الفكر وحرية الاعتقاد‏,‏ ومن أجل هذه الحرية الفكرية‏,‏ وتلك الحرية العقائدية‏,‏ اندلعت الحروب‏,‏ واريقت الدماء‏,‏ وحوكم بعض من المفكرين‏,‏ واعدم البعض منهم‏,‏ فقد اعدم سقراط وحوكم جاليليو‏,‏ واحرق برونو فوق كتبه‏,‏ واحرقت كتب ابن رشد‏,‏ وحوكم الشيخ علي عبدالرازق وفصل من الجامعة‏,‏ وغيرهم كثيرون‏.‏ والتسامح الفكري يعني ان تعدد الآراء أمر مشروع‏,‏ وان التباين في الفكر يضفي علي الأفكار والاشياء معني وثراء‏,‏ وان حق التباين جوهري في حياة الناس‏,‏ ففي التباين اقرار بتفرد الانسان واختلافه‏,‏ وحرية الاعتقاد تعني ان لا اكراه في الدين وان الايمان ثمرة للارادة الانسانية الحرة بغير قهر أو ارغام أو تسلط‏.‏ وفي تعاليم المسيح المثالية‏,‏ تزخر آيات الاناجيل بالدعوة إلي العدالة والمحبة والتواضع وانكار الذات وقبول الآخر‏,‏ والقدرة علي هزيمة الخطيئة وكلها عناصر للتسامح‏.‏

ومصر مطبوعة علي التسامح‏,‏ حيث يشكل مكونا جوهريا من مكونات وجودها الثقافي الثري التكوين‏,‏ إلي الدرجة التي يصبح فيها الانتماء ولاسيما في أوقات الازمات الدرامية يبلغ حد الشوفنية التي هي قاسم مشترك لدي الأمم التي تتمتع بعراقة تاريخية وتطلع فعال صوب المستقبل‏,‏ واستجابة خلاقة لتحديات الواقع التي تتمثل في‏:‏ تحدي الزمن كشيء نادر يمكن استثماره‏,‏ والكوكبية كمفهوم يهيمن علي عصرنا‏,‏ والتأصيل الديمقراطي والتنمية البشرية والاقتصادية‏,‏ والعنف والإرهاب‏.‏

الأمر الذي يستلزم ان نكون جميعا في مواجهة تحديات متعددة من اجل مستقبل افضل يتمتع فيه مسيحيو الأمة ومسلموها بجميع الحقوق والواجبات‏,‏ ويكون المعيار الأوحد للتفرد والتميز الشخصي هو القدرة والامكانية وثراء الفكر‏,‏ وإتقان العمل‏,‏ والقدرة علي المشاركة السياسية‏.‏