نمي جسده.. وتوقف عقله--سليمان جودة

أوحي مسلسل «نصف ربيع الآخر»، الذي قام ببطولته الفنان يحيي الفخراني، إلي السفير جمال منصور، بمقالة عنوانها «نصف فاروق الآخر»، جاءتني منه، ومعها رسالة تقول الآتي:

قرأت ما جاء في عمودك يوم ٢ يناير الحالي، تحت عنوان «بوكيه ورد تأخر ٥٥ سنة»، وتحدثت فيه عن مسلسل الملك فاروق، الذي أذيع في رمضان الماضي، وما تركه بين المصريين في الداخل والخارج من صدي واسع، أضفت أن في كندا تعيش جالية مصرية كبيرة، وأن صدي المسلسل بينها كان هائلاً، وأنها بعد انتهاء حلقاته، راحت تبحث عما إذا كان أحد من أفراد أسرة الملك فاروق لايزال علي قيد الحياة.. ولما عرف أفراد الجالية، أن الإمبراطورة فوزية، شقيقة الملك الراحل، لاتزال تعيش في الإسكندرية، أرسلوا إليها أكبر باقة ورد تتلقاها في حياتها، اعتذاراً منهم عما لحق بأفراد الأسرة من نفي وتشريد، طوال ٥٥ سنة من عام ٥٢، إلي الآن.

يقول السفير منصور: وأري أن ما قامت به الجالية المصرية في كندا، إنما هو لمحة عطف ووفاء، تستحق التقدير، ولكن ـ علي الجانب الآخر ـ كنت أتمني أن يكون بعض أعضاء هذه الجالية، قد عاشوا في عهد الملك فاروق، أو يكونوا قد رأوا النور والدنيا، في ذلك العهد، حتي يعرفوا حقائق التاريخ ويتوقفوا عند صفحاته الجلية الواضحة.. وتجد مع رسالتي، مقالاً وتعليقاً من جانبي، علي المسلسل، وجاء المقال تحت عنوان «نصف فاروق الآخر» حتي تكتمل الصورة أمام كل من يرغب في معرفة تاريخ بلاده، وليس جزءاً منه.. وحتي يري النصف الآخر من القمر، بدلاً من أن يكتفي برؤية الجزء المضيء منه فقط.

ثم يسرب السفير منصور في مقالته المرفقة مع الرسالة، الجانب الآخر من عصر فاروق، باعتبار أن لكل عصر وجهه، وأن ما جاء في المسلسل هو فقط الوجه المضيء!!.. فالملك، من وجهة نظر السفير منصور، قام بتشكيل الحرس الحديدي، بقيادة طبيبه الخاص يوسف رشاد، للعمل ضد كل من يشتبه في ولائه للملك، وحاول الاعتداء علي حياة النحاس باشا، بالاغتيال مرتين.. واغتال الضابط عبدالقادر طه، وأمر الحرس الحديدي بالتخلص من الثري المعروف وقتها رفيق الطرزي، وراح يراقب من خلال الحرس الحديدي أيضاً، الملكة فريدة، بعد طلاقها منه، وشارك من خلال بعض رجال القصر،

في قضية الأسلحة الفاسدة، التي انتهي التحقيق فيها بحفظها بعد تدخله فيها، ودفع بالجيش المصري إلي فلسطين، دون إعداد ولا تهيئة ولا تدريب، فتسبب في كارثة، وسحب المتطوعين من الإخوان المسلمين، من أرض المعركة في فلسطين.. و.. و.. إلي آخر الخطايا التي ارتكبها فاروق، بينما المصريون في ذلك الوقت كانوا يعانون الفقر والجهل والمرض، ولانزال نذكر كيف أن صحيفة «الاشتراكي» نشرت صورة كبيرة، ترصد أعداداً غفيرة من الجوعي والمشردين والعرايا، وتحتها عنوان كبير يقول: «رعاياك يا مولاي»!!.

إلي هنا، انتهت رسالة الرجل، ومن جانبي، لا أكاد أختلف معه، في شيء مما قاله، ولا يكاد أحد غيري، يختلف معه.. ولكنه يعلم، وغيره يعلم، يقيناً، أن هذه الحقائق التي سردها، لا تنفي إطلاقاً، أن عصر ما قبل يوليو، كان قد شهد ـ في المقابل ـ بدايات حياة ليبرالية، علي المستويين السياسي والاقتصادي، وأن هذه الحياة الناشئة، لو كان الله قد قدر لها أن تستمر في نميها الطبيعي خطوة خطوة، علي أيدي رجال يوليو، أو غيرهم، لكنّا الآن، في وضع مختلف تماماً، عن هذا المنحدر الذي تدحرجنا إليه..

فعندما قامت ثورة يوليو، كان المجتمع المصري، أقرب ما يكون ـ إذا جاز الوصف ـ إلي طالب بلغ في دراسته المرحلة الإعدادية، غير أن الثورة ردته فجأة، إلي السنة الأولي الابتدائية مرة أخري، خصوصاً علي المستوي السياسي، وظلت الثورة مصممة علي إبقائه هناك، فكانت النتيجة أن البلد الذي عاد قسراً وقهراً إلي المربع الأول نمي جسده وتوقف عقله عن النمي، كما تري، ويري كل ذي عينين!!.

اشكرك على الموضوع