عام جديد وأسئلة قديمة..سليمان العسكري..الأهرام

مع بداية عام جديد نتطلع من حولنا ونرنو للآفاق‏,‏ فنكتشف أننا نراوح في أماكننا‏,‏ وأن هذه المراوحة طال عهدنا بها كعرب‏,‏ فأسئلة النهضة العربية المطلوبة أو المأمولة‏,‏ وحدود التعامل أو التفاعل مع الآخر الغربي ووضع هويتنا ولغتنا في مهب الريح‏,‏ كل هذه الأسئلة المحورية للوجود العربي‏,‏ المادي والمعنوي‏,‏ الثقافي والسياسي‏,‏ تبدو كأنها تمضي في مسارات دائرية‏,‏ تعود دائما إلي نقاط البدء نفسها لتكرر ذاتها وتضعنا في موضع المراوحة‏.‏ بداية عام جديد‏,‏ عادة ما تذكر الأفراد والشعوب بسعي جديد وخطوات جديدة‏,‏ وهي في الوقت نفسه تنبه إلي مغادرة سعي مضي وخطوات جري إنجازها‏.‏ ولأنه ما من سعي ولا خطو إلا ويرتكز علي مخطط ما‏,‏ يطرح أسئلة الكينونة والوجود‏,‏ ويحاول الإجابة عنها‏.‏ فإنه يبدو منطقيا أن يتواكب مطلع عام جديد مع بروز أسئلة جديدة تتعلق بوجود الأفراد والأمم‏.‏ لكنني وجدت أمامي قائمة من الأسئلة المتعلقة بوجودنا العربي تم طرحها من خمسة وثمانين عاما‏,‏ وبادر بالإجابة عنها عدد من رموز العقل العربي آنذاك‏,‏ وجدت أن الأسئلة لاتزال قابلة لإعادة الطرح‏,‏ وكأن خمسة وثمانين عاما لم تكن‏,‏ أو أننا كنا طوالها نسير في المكان ذاته‏.‏
أما الإجابات‏,‏ فسأتركها تعبر عن نفسها‏,‏ لعلها تزيل هاجس المراوحة في المكان أو تثبته‏.‏

لقد قدمت مجلة الهلال المصرية الشهرية هذه الأسئلة عام‏1923‏ تحت عنوان فتاوي كبار الكتاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية‏,‏ ونهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية‏,‏ ونتساءل‏:‏ هل خرجنا من هذا الإطار؟ إطار القلق علي مستقبل لغتنا العربية‏,‏ ومن ثم هويتنا‏,‏ ونهضة أقطارنا‏,‏ وتكاملها‏,‏ وموقفنا من الغرب‏,‏ وتحديث التعليم والانفتاح السياسي والاجتماعي؟

تقول الأسئلة‏:‏ ـ هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة علي أساس وطيد يضمن لها البقاء؟ أم هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟

ـ هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار وتآلفها؟ ومتي؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟ ولعل أول ما يتبادر إلي أذهاننا بعد الاطلاع علي هذه القائمة من الأسئلة‏,‏ هو انبثاق تساؤلات تابعة‏,‏ تعكس أول ما تعكس استغرابنا‏:‏ ألسنا مهمومين ولانزال بمثل هذه الأسئلة؟ ألم يزل القلق ينهشنا بشأن وضعنا في العالم؟ هويتنا؟ وأسئلة النهضة؟ والعروبة؟ والغرب؟ إنها مفارقة موجعة أن تظل أمة تكرر علي نفسها الأسئلة نفسها‏,‏ وعلي مدي يقارب قرنا من الزمان؟ ألا يعني ذلك شيئا موجعا للذات القومية‏,‏ ألا يفجعنا الإحساس بأن الزمان يتقدم إلي الأمام‏,‏ بينما نحن ندور في دوائر مغلقة لنقف عند النقاط ذاتها من جديد؟

في هذا الاستفتاء قال ميخائيل نعيمة‏:‏ إذا كان لما تعودنا أن ندعوه رقيا أو تقدما من معني فمعناه يجب أن يقاس بالسعادة الناتجة عنه‏.‏ ولا مقياس للسعادة‏,‏ في نظري‏,‏ إلا واحد‏.‏ وهو مقدار التغلب علي الخوف بكل أنواعه‏,‏ خوف الجوع والألم والفاقة والعبودية وكل ما هناك من ضروب الخوف‏.‏ لأن التغلب علي الخوف يولد تلك الطمأنينة الروحية التي لا سعادة دونها أما الدكتور طه حسين فقد قال‏:‏ أفهم أن تلقي مثل هذه الأسئلة في هذه الأيام التي نعيش فيها لأن الشرق العربي كله مضطرب اضطرابا شديدا لم يكن لنا به عهد من قبل‏,‏ فمن المعقول أن نسأل عن مصدر هذا الاضطراب وعن قيمته وعن نتيجته‏.‏ وكان رأي طه حسين أن الاضطراب مصدره أن العرب في حالة انتقال من مرحلة لمرحلة‏,‏ وكأننا به يتكلم عن زمننا‏,‏ وأزمنة عربية تكرر نفسها‏,‏ فمتي لم نكن في مرحلة انتقالية؟ لكن يبدو أنه انتقال من سييء إلي أسوأ‏.‏ أما جبران خليل جبران‏,‏ فقد كان أكثر المستطلعة آراؤهم عاطفة وحدة‏,‏ إذ أجاب‏:‏ إن الشرق بكليته ذلك الشرق الممتد من المحيط إلي المحيط‏,‏ قد أصبح مستعمرة كبري للغرب والغربيين‏.‏ أما الشرقيون‏,‏ الشرقيون الذين يفاخرون بماضيهم ويتباهون بآثارهم ويتبجحون بأعمال جدودهم‏,‏ فقد صاروا عبيدا بأفكارهم وميولهم ومنازعهم للفكرة الغربية والميول والمنازع الغربية‏.‏ والمدهش أن يكون جبران هو الأكثر حرقة وألما للوضع العربي بالرغم من حياته في مغتربه‏,‏ يقول‏:‏ في عقيدتي أنه ليس بالإمكان تضامن الأقطار العربية في زمننا هذا‏,‏ لأن الفكرة الغربية القائلة بميزة القوة علي الحق‏,‏ والتي تضع المطامع الاستعمارية والاقتصادية فوق كل شيء‏,‏ لا ولن تسمح بذلك التضامن طالما كان له الجيوش المدربة والبوارج الضخمة لهدم كل ما يقف في سبيل منازعها استعمارية كانت أم اقتصادية‏.‏

لقد أسفرت الإجابات السابقة عن فرز موقفين تجمعهما ضرورة الانفتاح علي الغرب‏,‏ وتحديدا الانفتاح علي منجزات الغرب العلمية والتقنية والفكرية متضمنة النظم السياسية‏,‏ أما الفارق بين هذين الموقفين فهو درجة الأخذ والاتباع المطلوبة‏,‏ فهناك من ينادي بأخذ مفتوح من هذا الغرب المتقدم‏,‏ وبلا حدود‏.‏ وهناك من ينادي بالأخذ في حدود الملاءمة للحياة العربية بتقاليدها الثقافية ورواسخها الاجتماعية‏.‏

مما سبق من إجابات تتضمن آراء واقتناعات لدي أصحابها من رموز الفكر آنذاك فإننا نكاد نجزم أن الصورة ستتكرر لو أعدنا طرح ذات الأسئلة التي لاتزال صالحة بل ملحة في زمننا وكأننا لم نتحرك خطوة علي طريق النهوض‏,‏ ولم نتآزر لحظة في سبل التضامن‏,‏ وهذه المفارقة بين لحظتين يفصل بينهما أكثر من ثلاثة أرباع القرن‏,‏ دون أن تفقد الأسئلة القديمة معانيها‏,‏ ودون أن تتجدد مرامي الإجابات وتوجهاتها‏,‏ لتدل بأوضح صورة مؤلمة علي شيئين‏:‏

أولا‏:‏ أننا لا نطرح قضية للنقاش لننتهي منها وننتقل إلي غيرها‏,‏ متجددين مع مستجدات الزمان‏,‏ وحاسمين ما نتركه وراء ظهورنا‏,‏ بل نترك قضايانا مفتوحة‏,‏ ومن ثم نترك إراداتنا رهينة لهذا الموقف المعلق‏,‏ وهو مما يجمد خطونا ويقعد بهمتنا عن النهوض‏,‏ فنجد أنفسنا نراوح في المواقع الفكرية والعملية ذاتها برغم مرور السنين والعقود‏.‏ ثانيا‏:‏ إن تمترس كل فريق فكري باقتناعاته‏,‏ لم يؤد فقط إلي تكرار الأطياف ذاتها من المواقف العربية الفكرية بعد خمسة وثمانين عاما‏,‏ وإن بصورة أكثر فجاجة أحيانا‏,‏ بل إن هذا التمترس هو الذي أنتج هذه المراوحة الفكرية‏,‏ ومن ثم العملية‏,‏ في المكان‏,‏ لأن الفرقاء لم يسعوا إلي إجابات مجتهدة تأخذ من الآخر بما يثري الذات‏,‏ وتحافظ علي الذات دون قطيعة مع الآخر‏.‏ ليس فقط الآخر خارج الثقافة والأوطان واللغة‏,‏ بل الآخر المختلف في الرأي والرؤية من داخل الأوطان والثقافة العربية ذاتها‏.‏

اشكرك على الموضوع

اشكرك على الموضوع