عمر الشريف وأنور السادات--بقلم د.حسن نافعة

أشرت في نهاية مقال سابق إلي حديث أجراه الأستاذ محمود موسي مع الفنان الشهير عمر الشريف، ونشرته صحيفة «الأهرام» المصرية يوم ١٢ ديسمبر الماضي كشف فيه عن تكليف الرئيس السادات له بالاتصال بمناحم بيجن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق قبل القيام بزيارته الشهيرة للقدس عام ١٩٧٧، ولأن الحيز المتاح في مقالي المشار إليه، والذي كان مخصصا في واقع الأمر لمعالجة موضوع آخر، لم يكن يسمح بالاستطراد كثيرا في التحليل، فقد اكتفيت بوصف هذه التصريحات بأنها مجرد كلام مرسل لا دليل عليه وأنها تسيء إلي الرئيس السادات بقدر ما تسيء إلي الفنان عمر الشريف نفسه، واختتمت تعليقي عليها قائلا: «ليس من المقبول التعامل مع قضايا علي هذا القدر من الخطورة بمثل هذه الخفة، وسواء كان ما قيل مجرد خيال محض أو حدث فعلا فإنه يكشف عن أمور قد تستحق أن نناقشها في مقال آخر إذا ما سنحت الفرصة».

قد يري البعض أن تصريحات عمر الشريف هذه لا تستحق الاهتمام، وأن هناك موضوعات أخري ربما تكون أولي بالرعاية، إلا أنني أستأذن القارئ، رغم ذلك، في العودة إليها لشرح ما قصدت خصوصا أن البعض كان قد طلب مني ذلك في حينه.

ولقطع الطريق علي أي نوع من اللبس أو سوء الظن، أبدأ باستعادة نص الفقرة التي لفتت نظري في حديث عمر الشريف، والتي قال فيها: «الرئيس السادات كلمني وقال لي أنت تتعامل في الأفلام مع اليهود وتعرفهم.. كلم مناحم بيجن بالتليفون- رئيس وزراء إسرائيل في السبعينيات- واسأله لو جاء السادات عندكم كيف سيكون استقبالكم له؟ فذهبت إلي سفارة إسرائيل في باريس وقلت للسفير اطلب لي بيجن، فقال لي ازاي تكلمه. قلت له عندي رسالة له من الرئيس السادات.. المهم كلمت بيجن وقلت له الرئيس السادات بيسأل لو جاء عندكم من أجل مفاوضات السلام كيف سيكون استقبالكم له؟! فقال بيجن سوف نستقبل السادات كالأنبياء» ..

«ثم يكمل: السادات هو الذي رجعني مصر، كنت قابلته في البيت الأبيض واستقبلني بشكل جميل وقال لي إنت ابننا ولازم ترجع بلدك ووطنك، وعزمني علي فرح ابنته، وقال لي بطريقة ابن البلد لو لم تأت هاخاصمك».

لماذا ينطوي ما جاء في هذا الحديث علي إساءة للرئيس السادات، من حيث لا يدري عمر الشريف. لأسباب عديدة:

أولها: إنه يظهر السادات بمظهر رجل ساذج لا يدرك أبعاد وخطورة تصرفاته، وهو أمر يصعب تصديقه. فكيف يمكن لعاقل أن يتصور أن رئيس أكبر دولة عربية كان يخشي من احتمال إساءة استقباله، إذا ما قرر زيارة إسرائيل طلبا لصلح تقول إنها تتوق إليه، ويلجأ إلي طرف ثالث لجس نبض بيجن وكأن هذا الأخير هو الذي يقدم للسادات خدمة جليلة بالموافقة علي استقباله في إسرائيل!. فهل كان السادات يتوقع مثلا أن يعتذر بيجن أو يعبر عن عدم ترحيبه بالزيارة.

وإذا افترضنا جدلا أن عمر الشريف كان قد لمس من بيجن فتورا أو عدم ترحيب بالزيارة، فهل كان السادات سيغير رأيه ويعدل عن مبادرته، أم كان سيلح علي عمر الشريف لاستخدام جاذبيته «الهوليوودية» لإقناع بيجن باستقباله؟!.

ثانيا: إنه يظهر السادات بمظهر المرتبك إلي حد الإقدام عن كشف أهم أوراقه دون أن يدري، وهو أمر يستحيل تصديقه أيضا، خصوصا أن السادات كان يدرك أن المبادرة التي أقدم عليها لا تحدث تأثيرها، إلا إذا كانت مفاجأة كالصاعقة، فكيف والحال كذلك تصور أن يقدم السادات علي كشف أوراقه لعمر الشريف ويخفيها عن أقرب معاونيه، ومنهم وزير خارجيته إسماعيل فهمي الذي قدم استقالته احتجاجا، لأنه لم يعلم بزيارة القدس إلا من وسائل الإعلام!.

ثالثا: إن ما قاله عمر الشريف يتناقض كليا مع ما هو معلوم بالضرورة. فمن الثابت الآن، علي سبيل المثال وليس الحصر، أن السادات كان قد أوفد «حسن التهامي» في مهمة سرية إلي المغرب لمقابلة موشي ديان قبل أن يقرر اتخاذ مبادرته بزيارة القدس. ولو كان السادات يرغب في كشف نواياه لاستخدم الزيارة ورقة مساومة يتوج بها مفاوضاته السرية مع ديان، وليس علي هذا النحو الفج الذي أوحي به عمر الشريف.

أما لماذا ينطوي ما قاله عمر الشريف علي إساءة لنفسه قبل الإساءة للآخرين، فلسببين:

الأول: إن الرئيس السادات لم يحدد لعمر الشريف، بافتراض أنه طلب منه الاتصال ببيجن، وسيلة هذا الاتصال. ويفهم من سياق الحديث أن السادات كان يرغب في استثمار معارفه «الهوليوودية» من اليهود، غير أن عمر الشريف هو الذي قرر أن يتم هذا الاتصال عبر قناة دبلوماسية رسمية، هي السفارة الإسرائيلية في باريس، وهو أمر أقل ما يقال فيه إنه يدعو للاستغراب ويثير علامات استفهام كثيرة. ولو كان الرئيس السادات يرغب في أن يتم الاتصال عبر قناة دبلوماسية لما كان بحاجة إلي شخص من نوعية عمر الشريف لإجراء مثل هذا الاتصال.

ثانيا: تبدو رواية عمر الشريف مفككة وغير قابلة للتصديق لسبب آخر بسيط وهو أن رؤساء البعثات الدبلوماسية في الخارج لا يقومون عادة- فضلا عن أنهم لا يستطيعون في معظم الأحيان- بالاتصال مباشرة برؤساء دولهم أو حكوماتهم. ويفهم مما قاله عمر الشريف أن رغبته في الاتصال ببيجن استجيب لها علي الفور وتمت مباشرة عبر السفير الإسرائيلي ومن مكتبه في باريس، وهو أمر أقل ما يقال فيه إنه يخرج عن المألوف ويثير المزيد من الشكوك.

وإذا صح هذا التحليل فإنه يقود إلي واحد من احتمالين لا ثالث لهما:

الاحتمال الأول أن تكون رواية عمر الشريف مختلقة من الأساس ولم تحدث أصلا، وهو ما نستبعده. فلا يوجد سبب وجيه يدعو عمر الشريف لاختلاق رواية ركيكة من هذا النوع لمجرد الرغبة في الادعاء بأنه كان علي صلة وثيقة بالرئيس السادات.

الاحتمال الثاني أن يكون الأمر قد اختلط علي عمر الشريف الذي نسي تاريخ وسياق حديث الرئيس السادات له، ونحن نرجح أن يكون الحديث المشار إليه قد تم فعلا، ولكن بعد زيارة القدس وليس قبلها وفي سياق تعبير الرئيس السادات عن رغبته في استثمار علاقة عمر الشريف باليهود لتوليد مزيد من الضغوط علي بيجن لحمله علي التجاوب مع المبادرة وتليين موقفه المتشدد، وليس لجس نبضه حول الطريقة التي سيستقبل بها هناك إذا ما قرر زيارة القدس!.

ما يدعونا لترجيح هذا الاحتمال أن المقابلة التي جري فيها الحديث المشار إليه كانت أول مقابلة لعمر الشريف مع الرئيس السادات، بدليل أنه قال له فيها، حسب نص كلمات عمر الشريف نفسه: «إنت ابننا ولازم ترجع بلدك ووطنك» و«عزمه» علي فرح ابنته مهددا إياه علي طريقة ابن البلد بأنه سيخاصمه إن لم يات!، وأن هذه المقابلة تمت في البيت الأبيض، ولأن الاحتفال بالتوقيع علي اتفاقية كامب ديفيد، والذي جري في سبتمبر ٧٩، هو المناسبة الوحيدة التي يمكن أن يكون عمر الشريف قد قابل فيها الرئيس السادات في البيت الأبيض، فلا يقبل عقلا أن يكون السادات قد طلب منه في هذه المقابلة تحديدا جس نبض بيجن حول زيارة للقدس كانت قد تمت قبل هذا التاريخ بعامين!.

حين رحت أتأمل الأسباب التي تدعو عمر الشريف لتذكير الناس في هذه الأيام بالذات بأنه ترك مصر هربا من نظام عبدالناصر وعاد إليها بطلب من رجل قوبل كالأنبياء في إسرائيل، بدا لي أن الأمر قد لا يكون مجرد صدفة أملتها عفوية الإجابة السريعة علي أسئلة صحفية، وإنما يأتي في إطار محاولات محمومة لتبييض وجه كل من سعوا في الماضي ويسعون الآن للسلام مع إسرائيل، من منطلق أن سعينا للسلام هو الذي حرر سيناء وأعادها إلي حضن مصر. غير أنني أختلف كلية مع هذه الرؤية.

فالواقع أنه ما كان يمكن لإسرائيل أن تصل إلي درجة التوحش التي نراها عليها اليوم لو كانت مصر قد أدارت صراعها مع إسرائيل بطريقة مختلفة بعد حرب أكتوبر. لذلك لا توجد في تقديري أي علاقة بين زيارة القدس وبين تحرير سيناء. ولأنني واحد ممن رأوا في زيارة السادات للقدس دليلا علي عشوائية التفكير وفقدان الرؤية الاستراتيجية، فمن الطبيعي ألا أشعر بارتياح تجاه أي محاولات لإظهار هذه المبادرة وكأنها وحي من السماء!.

حين رحت أمعن التفكير في الأسباب التي تدعو عمر الشريف ليقول ما قال عن أنور السادات خيل إلي أن سمات كثيرة تجمع بين شخصيتي رجلين أتقن كلاهما فن العلاقات العامة ليحقق لنفسه شهرة إعلامية أكبر من حجمه، ولأن الشهرة الإعلامية لا تكفي لصنع المكانة في التاريخ فسوف تظل مكانة فاتن حمامة عند المصريين أخلد كثيرا من مكانة عمر الشريف، حتي ولو كان الأكثر شهرة عند الغربيين!. وما يصدق علي فاتن وعمر يصدق علي عبدالناصر والسادات!.

اشكرك جزيل الشكر

موضوعات هايلة وعظيمة ونافعة

اشكرك على الموضوع